كانت فقيرة تكمل عشاءها نوما ثم أصبحت مليونيرة تطلب عشاءها من أفخم المطاعم!.. كانت تسكن حارة متواضعة وتقيم في شقة صغيرة ببيت آيل للسقوط في حي عين شمس ثم صارت من سكان الأبراج العالية في حي المهندسين!.. وبعد أن كان كيس نقودها لا يعرف سوي الأوراق النقدية فئة الخمسين قرشا وربع الجنيه، إذا هي من حملة دفاتر الشيكات!.. كل شيء تغير في حياتها من النقيض إلي النقيض ماعدا شيء واحد ظل ينغص عليها حياتها ويطرد النوم من عينيها.. وينتزع دموعها ليالي طوال وهي تنتظر شيئا تعرف جيدا أنه لن يصل إليها أبدا!
اسمها الحقيقي "فريدة" وإن كان معظم نجوم مصر الذين يعرفونها يجهلون اسمها، لأنها اختارت لنفسها اسما ذاع صيته واتسعت شهرته في عالم قراءة الفنجان!
التقيت بها في عز مجدها، كنت بصحبة فنانة شابة مهووسة بالغيبيات، وكان ذلك من سنوات لكن سرعان ما أصبحت هذه الفنانة من بطلات المسلسلات التليفزيونية التي تعرض الآن علي الشاشة الصغيرة!.. أما اللقاء الأخير بقارئة الفنجان فكان منذ فترة قريبة.. وكم أدهشني ما فعلته بها السنوات التي لم نلتق خلالها!
... في اللقاء الأول جلست الفنانة الشابة إلي يمين "فريدة" في البيت القديم بعين شمس، وجلست أنا أمام المرأتين أراقب ما يحدث بعد أن فرغت الفنانة من احتساء فنجان القهوة ثم سلمته إلي فريدة التي راحت تمعن النظر في الفنجان وهي تقلبه ذات اليمين وذات اليسار!.. لحظات وبدأت فريدة تلقي بقذائفها واحدة تلو الأخري، والفنانة الشابة يسيطر عليها الذهول والصمت من هول ما تسمع عن ماضيها وأسماء أبطال الحكايات التي عاشتها وبعضهم كان يخطط لاستدراجها إلي المتعة الحرام قبل أن يوقع معها عقدا أو يمنحها دورا!!.. وما أن بدأت فريدة تخبرها بالطالع والمستقبل حتي استأذنت أنا للجلوس خارج الحجرة حتي لا أقع في المحظور لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أتي عرافا وصدقه فقد كفر بما أنزل علي محمد وإن لم يصدقه فلن تقبل منه صلاة أربعين يوما"، لكني جلست حائرا، مفزوعا من صوت امرأة عجوز بالحجرة الثانية كانت تصرخ وتولول بصوت مكتوم دون أن أعرف السبب!
انتهي اللقاء.. وعدت مع الفنانة الشابة إلي مكتبي، وفي الطريق عرفت منها أنها سمعت نفس الصوت الذي سمعته أنا من الحجرة الثانية وأخبرتها فريدة أن صاحبة الصوت هي أمها التي تعاني من مرض الشلل! وعرفت من الفنانة الشابة، أيضا -أنها منحت فريدة عشرين جنيها أتعابا لها! ثم أكدت لي أنها كانت تود لو منحتها مبلغا أكبر لموهبتها الفذة!
مرت سنوات.. ونسيت لقائي بفريدة وانقطعت صلتي بالفنانة الشابة وأخذتني صاحبة الجلالة من حدث إلي أحداث حتي كان اللقاء الذي أصابني بالذهول شخصيا.. حكي لي صديق من أثرياء العرب عن معجزة في قراءة الفنجان، بطلتها امرأة تسكن حي المهندسين.. ودعاني للذهاب معه.. وهناك فوجئت بصاحبة الشقة المؤثثة علي أحدث طراز تمنحني إشارة بعينها فهمت منها أنها تطلب مني ألا أكشف عن شخصيتها أمام الثري العربي!
طالت الجلسة وامتدت.. وتعمدت فريدة في ثوبها الجديد وأناقتها الباريسية أن نتبادل أرقام التليفونات تلبية لرغبة الثري العربي في أن أكشف للقراء عن موهبتها الخارقة من خلال ريبورتاج صحفي..كان صديقي الثري العربي يريد أن يجاملها من خلال تسليط الأضواء عليها ورحبت فريدة بظهورها الاعلامي.. وكدت أضرب كفا بكف لأن فريدة في اللقاء الأول بيني وبينها كانت تشترط علي الفنانة الشابة ألا أنشر عنها كلمة واحدة حتي تطمئن وتوافق علي حضوري اللقاء!
المهم انني لم أقطع علاقتي بها بعد هذا اللقاء وظللت أحدثها تليفونيا.. وأزورها بين حين وآخر وأدهشتني هذه الأسماء اللامعة من نجوم مصر في الفن والرياضة وبعض الشخصيات العامة الذين يترددون علي "فريدة" باسمها الجديد وثوبها الجديد، وعلمت -أيضا- أنها تسافر بين حين وآخر إلي عواصم عربية كبيرة تلبية لدعوة شخصيات عربية ثم تعود محملة بالذهب والدولارات بكميات تلحس العقول!
دموع !!
وفجأة.. قامت فريدة بتغيير أرقام هواتفها.. وأرسلت أنا من يسأل عنها في البرج السكني الشهير الذي تسكنه وجاءني رد غريب لم يخطر ببالي ثمة لحظة.. لقد باعت الشقة وانتقلت للسكن في مكان لم تبلغ به أحدا.. ظننت أنها اختفت لسبب أو آخر ولعلني لن أراها مرة ثانية!
.. لكن ذات مساء فوجئت برنين الموبايل وعلي الشاشة رقم هاتف غير مسجل علي تليفوني الخاص .. رددت.. وإذ بها علي الطرف الآخر من المكالمة.. إنها فريدة!.. وإذا بها وبدون مقدمات تطلب مقابلتي فورا.. ذهبت إليها بعد أن هزني صوتها بنبراته المرتعشة.. وما أن جلست أمامها حتي طلبت مني رقم تليفون أحد الدعاة الإسلاميين المشهورين وحددته بالاسم .. ثم طلبت أن أرتب لها لقاء معه وأن أحضر معها هذا اللقاء علي أن يكون في أسرع وقت.. ولأنها كانت تبدو متوترة وقلقة ومجهدة فقد نفذت لها ما أرادت بعد أن وعدتني بأن أعرف كل الإجابات عن كل الأسئلة التي تدور في ذهني حينما تجلس أمام الداعية الإسلامي وتتحدث بكامل حريتها وبكل صراحة عن المأساة التي تعيشها!
ذهبت معها إلي الداعية الإسلامي الكبير.. جلست فريدة والدموع تنساب مع كلماتها.. حكت قصتها كاملة.. قالت وأنا أتابع ما تقول في اندهاش:
>> .. لا تصدق أن هناك من يقرأ الفنجان .. كلهم يكذبون ويتظاهرون بالنظر إلي الأشكال المرسومة داخل الفنان كأنها موهبة يمتلكونها وحدهم.. والحقيقة أن من تقرأ الفنجان لابد أن تكون لها علاقة بالجن!.. نعم.. أنا أحكي لك من خلال تجربتي.. الجن هو الذي يسأل قرين الزبون عن الماضي والحاضر ويهمس بالإجابات في أذن قارئة الفنجان فترددها وكأنها تقرأها من الفنجان!.. والناس يصدقون.. أنا منذ صغري نشأت يتيمة الأب وأمي كانت تمتهن هذه الحرفة وتكسب منها قوت يومنا.. وحينما شب عودي صارحتني أمي بالحقيقة وأبلغتني أنني مطلوبة لمساعدتها وطلبت مني ألا أخاف من علاقتي بالجن!.. وبالفعل نشأت العلاقة وكان المطلوب مني بعض الطقوس والأعمال التي تخالف شرع الله حتي يساعدني الجن علي إبهار الناس.. أما الشيءالأكثر رعبا فكان ما يحدث ليلا في غرفة نومي وأعجز عن مقاومته!.. واندفعت في هذا الطريق هربا من الفقر، وتفوقت علي أمي بدائرة علاقاتي التي اتسعت يوما بعد يوم وصداقاتي مع الأثرياء والنجوم حتي حققت كل أحلامي.. وذات يوم مرضت أمي بشدة وتأزمت صحتها يوما بعد يوم حتي شاهدتها وهي تحتضر لمدة أسبوع كامل ذاقت فيه العذاب ألوانا وأشكالا إلي أن اسود وجهها وماتت وملامحها بلون قطعة الفحم!.. منذ هذا اليوم وأنا أفكر بشدة في العودة إلي الله، لكني خائفة من تهديدات الجن لي.. لست خائفة من العودة إلي الفقر وإنما من انتقام الجن مني!.. فماذا أفعل يا سيدي؟!
أنهت فريدة حديثها بتنهيدة طويلة وهي تسأل الداعية هل سيقبل الله توبتها ؟؟هل يملك الجن ضررا لها ؟؟ وماذا تفعل امام تهديده لها اذا هي اعتزلت وقطعت علاقتها بهذه المخلوقات خاصة وان مايطلبونه منها يدخل في باب الشرك والكفر ؟؟.. ورد الداعية الإسلامي الكبير وهو يؤكد لها من الكتاب والسنة أن كيد الشيطان كان ضعيفا، وأن عليها التوبة فورا وأن الله سبحانه وتعالي هو الذي سيحميها، ويرزقها ويرشدها لسواء السبيل طالما كانت توبتها خالصة ومصحوبة بالندم .. بل تحدي الداعية الكبير أن يبقي الجن في حياتها_ لو كان موجودا بالفعل _ لأن الله يحمي التائبين ، ثم سألها الداعية الكبير:
< هل تملكين مالا أم نبحث لك عن وظيفة؟!
<< المال عندي يحسدني عليه من يعرفون حجمه.. لكنه من طريق غير شرعي!
< وماذا ستفعلين به؟!
<< سوف أنشيء دارا للأيتام وأديرها بنفسي.. أنا في غاية الشوق لرضا الله حتي وإن عدت فقيرة.!
ابتسم الداعية الكبير ودعا لفريدة بالتوفيق.. وانصرفنا معا أنا وهي .. لم تكن فريدة بنفس الأناقة، ولا كانت معها سيارتها..وظللت اتأمل طوال الطريق رحلة هذه السيدة من فقر تحت خط الصفر الي ثراء بلا حدود ثم رغبة في الامان حتي لو ضاعت كل ثروتها !!.. وقبل أن يصل بنا الطريق الي نقطة النهاية سألتها عن الشيء الذي وصفته بأنه ينغص حياتها ويطير النوم من عينيها. قالت في براءة:
>> "الأمومة".. العمر يتقدم بي والجن كان يهددني إذا تزوجت وكنت كلما أويت إلي فراشي أبكي وأنا أتخيل طفلي الذي لن يصل للحياة أبدا!.. والآن سوف أبدأ حياة جديدة.. ادعيلي!
وصلنا إلي شقتها الجديدة بأحد أحياء الجيزة حيث لا يعرفها أحد.. وكانت فريدة حريصة أن تبلغني بأنها تختار الملابس التي تتناسب مع البيئة الجديدة التي تعيش فيها في الحي الشعبي وأن كل ثروتها مودعة بالبنك حتي تبدأ فورا في مشروعها الخيري!.. ونزلت من سيارتي وهي تداري دموعا عجزت أن تمنعها !!
ظلت علاقتي بها "هاتفيا" أطمئن عليها من حين إلي حين.. وهذا العام وجهت لي دعوة للمشاركة في الاحتفال بيوم اليتيم في دارها الجديدة .. ونشرت الصحف تحقيقات عن العمل الاجتماعي العظيم الذي تقوم به السيدة فريدة دون ان يعرف القراء من هي ولا قصتها .. ولحظات الاعتراف والتوبة التي عشتها معها ومع الداعية الاسلامي الكبير .. كنت الوحيد الذي يعلم بداية ونهاية مشوارها !
يوم الاحتفال منعتني ظروف صحية من تلبية الدعوة، اتصلت بها مهنئا وسألتها ان كانت سعيدة بمشروعها . ففوجئت بها تقاطعني في حماس قائلة:
>> كان نفسي يكون عندي ابن .. ربنا اداني خمسين ولد وبنت !!بس كان نفسي ادعو العظيمة شادية لانها مثلي الاعلي وعاوزة اتعلم علي ايدها تعاليم الدين !!
و لم تنس فريدة في نهاية المكالمة ان تهمس لي بنصيحتها التي احفظها عن ظهر قلب :
>> اوعي تشرب قهوة وحد يقرالك الفنجان !!!
> > >
نسيت أن اقول لكم ان فريدة كانت قد لفتت انتباهي الي كلمة فنجان .. وان اتأمل اخر ثلاثة حروف في الكلمة !!!!!