لكي يخلص البلاد من النهب ويؤسس أول جيش مصري؟..
< مائتا عام مضت علي إنشاء الجيش المصري في عهد محمد علي بعدما قضي علي المماليك في مذبحة القلعة وتفرغ لبناء مصر الحديثة والقوية.. مائتا عام مرت منذ ١١٨١ وكانت حافلة بالحروب التي خاضها الجيش المصري وأثبت فيها وطنيته وقدرته علي مواجهة الصعاب.. وكان ظهور محمد علي إيذانا بانتهاء ثلاثة قرون من الجهل والضعف والتخلف عاشتها مصر تحت حكم العثمانيين وسطوة المماليك وفسادهم وظلمهم.. وعندما بدأ محمد علي وضع أساس بناء مصر الحديثة كان أول ما اتجه إليه هو إنشاء جيش قوي من الفلاحين المصريين لكي يكون دعامة القوة العسكرية للدولة الجديدة التي أخرجت من كبوتها ودفعت بها إلي مستوي الدول القوية..!
ويتصادف أن تتواكب تلك المناسبة مع ذكري ثورة ٣٢ يوليو التي قادها عبدالناصر وكان أحد مبادئها الستة: اقامة جيش وطني قوي.. لكي تؤكد علي دور العسكرية المصرية في بناء مصر الثورة وقدرتها علي حمايتها وصون استقلالها، وقد واجهت مصر بعد ثورة يوليو تحديات كبيرة وخاضت ثلاثة حروب واثبت الجيش المصري قدرته علي تجاوز هزيمة يونيو وتحقيق النصر في حرب أكتوبر بصموده وجسارته في القتال!
وأعود بالذاكرة الوطنية إلي ما قبل مائتي عام عندما تولي محمد علي ووجد أن البلاد في حالة يرثي لها بعدما فقد المماليك قدراتهم العسكرية منذ هزيمتهم أمام القوات الفرنسية وتحولوا إلي عصابات للسلب والنهب، ولذلك قرر تكوين جيش نظامي يقوم بمهمة الدفاع والحماية للشعب المصري، ولم يكن ذلك ممكنا في ظل وجود المماليك.. كانت العلاقات بين محمد علي والمماليك - منذ انفراده بالحكم- قد وصلت إلي طريق مسدود وكان من الصعب عليهم أن يقبلوا بالأمر الواقع وهوأن محمد علي صار حاكما لمصر بلا منازع.. ولذلك أعلنوا عليه الحرب واستدرجوه إلي الصعيد حيث تتجمع قواتهم منذ أيام الحملة الفرنسية واستعانوا عليه بالانجليز وجاءت إليهم »حملة فريزر« عام ٧٠٨١ لتساعدهم علي خلع محمد علي ولكن أهالي رشيد قاموا بالدفاع عن مدينتهم وطردوا الانجليز..!
ولم يستسلم المماليك وأخذوا يدبرون المؤامرات لاغتيال محمد علي وفشلوا وأيقن الثعلب الألباني أنه لا أمل له في البقاء علي عرش مصر طالما بقي المماليك ينازعونه السلطة ويدبرون له المؤامرات، ووجد ان المواجهة المسلحة معهم سوف تستنزف قواه وتشغله عن هدفه الأكبر وهو بناء مصر الحديثة، ولذلك لجأ إلي سلاح المكر والمكيدة.. وأعرب عن رغبته في الصلح مع المماليك والسماح لهم بالعودة إلي القاهرة لكي يعيشوا في سلام وأكل المماليك الطعم وقبلوا العرض وتوافدوا علي القاهرة بعدما ألقوا السلاح وتخلوا عن القتال.. وأصدر محمد علي إعلانا بالأمان العام والصفح عن الأمراء المماليك وكل من يلوذ بهم حتي ذلك اليوم الدامي الذين تم فيه استدراجهم إلي القلعة.. ودبر محمد علي خطة اغتيال المماليك في سرية تامة ولم يكن يعلم بها غير أربعة من أقرب المقربين إليه: حسني باشا قائد الفرقة الألبانية- الكتخدا محمد لاظوغلي- صالح قوش قائد فرقة الأرناؤوط التي تولت تصفية المماليك- إبراهيم أغا الحارس المسئول عن باب العزب والمكلف باغلاقه أمام المماليك..
ووضعت ترتيبات المذبحة يوم الجمعة ١١ مارس ١١٨١ بحيث يتحرك الموكب وفي طليعته فرقة الفرسان، ثم إحدي فرق جيش الاحتلال العثماني ثم كوكبة من جنود الأرناؤوط بقيادة صالح قوش ثم جماعة الأمراء المماليك ويتقدمهم سليمان بك ومن بعدهم بقية الجنود الأرناؤوط من الفرسان والمشاة.. وكانت المناسبة لتوديع الجيش المصري الذاهب إلي الحجاز لحرب الوهابيين، والذي سيأخذ طريقه من باب العزب المطل علي ميدان الرميلة في القلعة ثم إلي شارع المعز.. ومنذ الصباح الباكر كان عزيز مصر محمد علي باشا يتصدر أريكة الحكم في قصره بالقلعة ويستقبل الشيوخ والعلماء والقضاة والتجار والأعيان الذين توافدوا للتهنئة، والدعاء لقائد الحملة ابنه أحمد طوسون، ولفت الأنظار قدوم كبار الأمراء المماليك علي خيولهم وفي ثيابهم المزوكشة للإعراب عن سعادتهم بالدعوة التي وجهها إليهم محمد علي للاحتفال وليكونوا ضمن الموكب الذي سيصاحب الحملة اثناء مرورها في شوارع القاهرة..!
وعندما حانت اللحظة الحاسمة دوي النفير إيذانا ببدء الرحيل ودقت الطبول ونهض محمد علي فهب المماليك وقوفا وتبادلوا من عبارات الود والترحيب وأستأذنوه.. وامتطوا خيولهم وأخذوا مكانهم في الموكب حسب الترتيب.. واتخذ الموكب طريقه منحدرا في الطريق الوعر الضيق المنحوت في صخور القلعة ويؤدي إلي باب العزب المطل علي ميدان الرميلة.. حتي إذا اقتربت الصفوف الأولي من المماليك من باب العزب إرتج الباب وأغلق من الخارج إغلاقا محكما، ولم يفطن المماليك إلي إغلاق الباب وأخذت خيولهم تتزاحم بفعل الانحدار الطبيعي حتي وجدوا أنفسهم محصورين في الخندق الضيق.
وفي حركة سريعة كان الجنود الأرناؤوط يتسلقون الصخور المطلة علي جانبي الخندق ويشهرون بنادقهم نحو المماليك، وفجأة دوت طلقة في الهواء، وبعدها انهمر الرصاص علي المماليك من فوقهم ومن ورائهم وسدت منافذ النجاة أمامهم وصار من المستحيل عليهم أن يتحركوا وهم علي ظهور الجياد في هذا الزحام العصيب، وازداد هياج الخيول مع صخب أصوات الرصاص فأخذت تلقي بالمماليك إلي الأرض وتدوسهم بأقدامها.. وحاول بعض الأمراء الزحف علي الصخور والدماء تنزف منهم حتي وصلوا إلي طوسون باشا - علي جواده- وأخذوا يستعطفونه ولكنه لم يستمع إلي صراخهم وأجهز عليهم الجنود ذبحا.. واستطاع سليمان بك البواب الزحف حتي وصل إلي سراي الحريم وأخذ يستغيث ولكن الجنود قطعوا رأسه.
وتكدست جثث القتلي فوق بعضهم - وبلغ عددهم ٠٧٤ قتيلا- وهم كل من صعد إلي القلعة من المماليك في ذلك اليوم الدامي ولم يفلت منهم سوي »أمين بك« الذي وصل إلي الموكب متأخرا فلما سمع أصوات الرصاص هرع إلي سور القلعة ولكز جواده بضربة عنيفة فهوي به من هذا الارتفاع الشاهق وقبل أن يلمس الأرض قفز من فوق ظهر الحصان فنجا من الموت وظل يجري في الصحراء حتي وصل أرض لبنان وعاش لاجئا في حماية الأمير بشير الشهابي!
وفي الوقت الذي جرت فيه مذبحة القلعة كان الجنود الأرناؤوط ينقضون علي قصور المماليك في القاهرة ويذبحون الأمراء ويستبيحون نساءهم وينهبون أموالهم.. وكان الألبان كالوحوش، يقتحمون القصور والبيوت، ولم يفرقوا بين المماليك والمصريين، واستباحوا كل ما وصلت إليه إيديهم.. واستمرت الفوضي ثلاثة أيام بلياليها ولم تتوقف إلا بعد ان نزل محمد علي إلي شوارع المدينة وتمكن من كبح جماح جنوده وسيطر علي الفوضي..!
ما حكم التاريخ علي مذبحة القلعة وهل تجاوز محمد علي حدود العقل والحكمة حينما قضي علي المماليك بهذه الطريقة لكي يستقر له الحكم؟ ويحاول بعض المؤرخين تبريرها بأنه اضطر إليها دفاعا عند نفسه فإن المماليك كانوا يتآمرون عليه حين ذهب إلي السويس لتفقد سفن الحملة الوهابية، ولكنه غادر السويس ليلا وعاد إلي القاهرة قبل تنفيذ المؤامرة!
كان هدف محمد علي الكبير هو القضاء علي المماليك الذين عاثوا في مصر فسادا ونهبا واستولوا علي كل خيراتها ولم يتركوا للشعب المصري المغلوب علي أمره سوي الفتات، وقرر التخلص من عصاباتهم وأعوانهم بضربة واحدة، وكان يدرك ان المماليك يتآمرون للتخلص منه حتي لا يقوم بتصفيتهم ويضع حدا للسلب والنهب وترويع المصريين.. وكان محمد علي أشد مكرا ودهاء منهم ولذلك وضع خطة مذبحة القلعة في سرية تامة بعدما صار من المستحيل أن يقوم ببناء مصر الحديثة في ظل وجود المماليك ـ الحقبة المظلمة في تاريخ مصر ـ وكان ذلك هو الذي دفع عمر مكرم زعيم الثورة الشعبية إلي تسليم البلاد للوالي محمد علي لإنقاذها من حكم المماليك.. ورغم أنه كان يجهل القراءة والكتابة إلا أن ذلك العسكري الألباني استطاع بذكائه الفطري ان يعرف أنه لا جدوي من التفاهم والتهاون مع المماليك وعصاباتهم التي تقوم بالسلب والنهب، ووضع نهايتهم في مذبحة القلعة، وتفرغ بعدها لتأسيس أول جيش مصري نظامي ومشاركة المصريين في الأعمال الحربية وقد أثبتوا بالفعل جدارتهم القتالية في جميع المعارك التي خاضوها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق