لازلت أصرّ على أن الجملة الأولى هي دائماً الأصعب. لن أبحث عن مقدمة مناسبة، و كعادتي سأبدأ الحكى هكذا... من أي نقطة.
قاعة فندق النيل، يوليو 2009... انقطع التيار الكهربائي اثناء عرس لصديقة لنا. تقف بجواري(بالقرب من " الكوشة") فتاة متأنقة. تهمس في أذني " تيجي نزغرط ف الضلمة؟" أجيبها: " رئيس القسم واقف جنبنا يا بنتي، هتفضحينا" يضحك هو و يجيب : " خدوا راحتكوا". تعلو زغاريدنا ممتزجة بصيحات الشباب الذين اصطفوا معنا بجوار العروسين لنقوم بعمل " الدي جي" لحين عودة التيار الكهربي. نخرج سويا من العُرس بصحبة والدتها و أختي لنبدأ رحلة انتظار " تاكسي" لنعود لبيوتنا. الشارع مزدحم و لا يوجد سوى الانتظار. تقترح: " طيب ما تيجوا نشرب عصير قصب على ما يجي تاكسي". نذهب لأقرب عصّارة و نقف "ندردش". توصيني والدتها بعدة أشياء يجب أن أتذكرها قبل سفري للولايات المتحدة ، فقد سافرت هي قبلي لنفس الولاية التي عشت بها قرابة عام، و تؤكد سالي على أننا سنلتقي هناك، لانها ستكون في نيويورك في خلال شهر.
كان هذا آخر لقاء لي بسالي مجدي كما عرفتها، أو سالي زهران كما يعرفها الجميع الآن بهذا الإسم. قيل شهيدة. و قيل انتحرت و كافرة و لا يجوز عليها الرحمة. و قيل " ربنا وحده يفصل ف أمرها لأنها لم تطع أولي الأمر من أهلها و هي كدة ميتة كافرة برده" و قيل موتها مريب و مشكوك فيه. و قيل موتها جاء رحمة و ستر " انتي ما تعرفيش هي بقت ايه، أصلك كنتي برة" و قيل ارتدت الحجاب ثم تركته. و أختلف الفقهاء أن العكس تماما هو ما حدث و أنها لم تكن محجبة في الأساس و لكنها ماتت على دين محمد، مرتدية الحجاب فلا يجوز نشر صورها بدونه. و قيل و قيل و قيل... و لن يملّ الناس من القول و النقد و إصدار الأحكام ببساطة من ينعم بالجهل... جهله بهذه الفتاة التي كنت و سأظل دوما أحمل لها كل مشاعر الحب و التقدير.
عرفتها طفلة تصغرني بثلاث أعوام أثناء رحلتنا التعليمية بمدرسة اللغات بسوهاج. نلتقى في " الفسحة" عند مدخل " مبنى ثانوي" أو " تحت النخلة اللي جنب الكانتين"، نثرثر و نضحك في مجموعات كبيرة، و نمارس هوايتنا المفضلة في مطاردة بعضنا البعض بزجاجات المياه الغازية، بعد وضع قطعة " بونبون لارنو" بداخلها و رجّها جيداً قبل بدء المعركة. عرفتها في حفلات تكريم الفائقين بالمدرسة. تنتظرني حتى أتسلم شهادة التفوق في النشاط لتوقع عليها " للذكرى" و تمتنع عن التوقيع على شهادات التفوق العلمي " عشان يمكن تبروزيها". عرفتها مرحة و مليئة بالصخب في الحفلات و الرحلات. عرفتها ودودة مع من زارها في بيتها. عرفتها فتاة اجتماعية من الطراز الأول، فتجد لها أصدقاء من مختلف الأعمار و الفئات الإجتماعية. عرفتها فتاة لا تعرف اليأس و لا تستسلم لحزن. لازلت أذكر جلستها في العزاء يوم وفاة والدها، و كانت في عامها الجامعي الأول، و هي تبتسم لنا و تداعبنا جميعا حتى علت ضحكاتنا بالفعل، فلم تحب أبداً تلك المواساة التي لن تعوضها عن خسارتها و لن تعيد ما كان، فحبست حزنها داخلها و فاجأتنا بابتسامتها المعهودة و ضحكتها العالية. عنيدة، و جريئة لأبعد حدّ... و لا تقبل أن " حد يدوس لها على طرف" و إلا " تبقى أمه داعية عليه".
لم تكن علاقتي بها علاقة صداقة حميمة، فلا أعرف شيئا عن تفاصيل حياتها الشخصية، و لا هي تعرف عن حياتي شئ. لكن علاقتنا كانت دائما طيبة و مليئة بحب و إحترام متبادلين، و كان بيننا " عِشرة". كانت الوحيدة من بين صديقاتي، و لازالت الوحيدة، التي تناديني بـ" سومة". عرفتها قارئة جيدة، تهتم بشكسبير منذ أن كانت في المرحلة الإبتدائية. عرفتها طالبة بالجامعة، في نفس الكلية و نفس القسم الذي درست به. أتذكر طلبها ذات يوم" عايزة احضر لك محاضرة، نفسي اشوفك و انتي كبيرة كدة و واقفة بتشرحي للعيال يا سومة". أتذكر نظرات الطلاب لها يوم دخلت معي قاعة المحاضرات و إمتعاض الفتيات و تعبيرات وجوههن لرؤية مظهرها " المختلف" و شكل حجابها الغريب، أو هكذا رأينه... ربما فقط لأنها كانت تختلف عنهن و عن " النمط" المتعارف عليه الذي لا يردن، و لا يقدرن على، تركه أو تغييره. أتذكر نظرتها لي يومها و تلك الابتسامة الواثقة، و قد تجاهلت تلك الهمهمات تماماً و جلست بإعتداد في الصف الأول من القاعة لتستمع لدرس يمكنها هي شخصياً أن تلقيه على الطلاب بشكل أفضل مني.
جمعة الغضب، يناير 2011... يدقّ جرس الهاتف بعد صلاة المغرب بقليل و يأتيني صوت رحاب متهدجاً، " هي سالي مجدي ماتت؟" ..." بيقولوا انتحرت" ... " بس يا بنتي بلاش تخريف، سالي مين اللي تنتحر". أغلق الهاتف و معه فكرة موت سالي من الأساس. و أتابع شاشات التليفزيون في إصرار مني لتجاهل ذلك الخبر، و استيعاب ما يجري في القاهرة و الاسكندرية و السويس ، و التحايل على قلقي على من أحب و لا توجد أي وسيلة اتصال بهم. و لكن خبر وفاتها بدا منطقياً وسط كل ما يحدث، و تأكد لي بالفعل أنها سقطت من شرفة منزلها...
حتى يومي هذا، لا يشغل تفكيري سوى لحظات معدودة، يمكن أن تكون قد دامت دهراً عليها... سالي ما بين شرفة بيتها و بين ارتطامها بسطح صلب أسكتها للأبد. سالي، التي عرفتها طفلة و شابة... تهوي... هكذا بلا مقدمات و لا سابق إنذار. بم شعرت؟ هل صرخت، أم أسكتتها صدمة المفاجأة؟ هل علمت أنها النهاية، أم حاولت التشبث بأي شئ يبقيها بيننا؟ هي لم تُرد ذلك... و ربما لم تتوقعه أبداً... و كنت أثور بشدة في وجه كل من ينهرني كلما قلت " رحمها الله" لأنها انتحرت و لا تجوز عليها الرحمة... أي كلام هذا! و أتعجب ممن يفكر، ببساطة شديدة، في ما إذا كانت سالي ارتدت الحجاب أم تركته! أي غباء هذا! مالنا و حجابها؟ هذا بينها و بين خالقها. بحجاب أو بدون، هي سالي. إذا ارتدته فهذا اختيار يخصها و إذا تركته فهذا اختيار يخصها أيضاً، لا يُنقص من قدرها في شئ ما دامت تعي ما تفعل و اختارته بإرادتها. فأنا أؤمن تماما بحرية الصواب، و حرية الخطأ أيضا... فكلنا معلّق بخياراته و تبعاتها، و الحساب لله فقط. أزعجني كثيراً انتقاد الناس لها بعد موتها، بل و امتدت حلقة الإنتقاد و إصدار الأحكام لتصل إلى والدتها بعد ظهورها على شاشات التليفزيون لتروي ما حدث. فسكوتها كان منتقداً، لأن سالي لم تمت في ميدان التحرير و بالتالي لا تستحق لقب شهيدة، و كلامها كان منتقداً لأنه خالف توقعات البعض، أو لم يكن وافياً، أو لأنها تتحدث بهذا الشكل أو ذاك... أعجز تماماً عن التعليق على كل هذا الهراء.. لا أفكر سوى في سالي التي أعرفها و هي تهوي من شرفتها، و في والدتها التي شاهدت ذلك أمام عينها...
شهيدة، منتحرة، أو غير طائعة لأولي الأمر ( كما أفتى البعض) ما حدث لها كان قدر. و يكفي القدر قسوة أنه قدر... و أن لا حيلة لنا به.
رجاءاً، من أراد أن يقول شيئا عنها، فليقل خيراً... أو ليصمت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق