من يصدق ان هناك رئيس للجمهورية كان سيتسلم الحكم من عبد الناصر في حياته برغبة ناصر ! ومن حظ مصر ان هذا الرئيس الذي طرح اسمه المشير عامر عقب نكسة 5 يونيو لم يتولي السلطة ، والا كان سيظل بالحكم للآن لأنه لايزال علي قيد الحياة .
فمنذ 42 عام وقعت نكسة 5 يونيو ..خسرت مصر ثلث مساحتها وكل هيبتها . وخسر الشعب كل كل الطرق المؤدية للحرية ، فقد تم اعلان شعار لاصوت يعلو فوق صوت المعركة . الهزيمة بدأت من الداخل بتكميم الافواه وتسليم السلطة لأهل الثقة واستبعاد اهل الخبرة. فقد سيطر علي الحكم غير المؤهلين للمناصب الحساسة . واخطرها منصب وزير الحربية الذي جاءت علي يديه ابشع هزيمة لمصر في عصرها الحديث . اقصد بالطبع شمس بدران ذلك الرجل الحديدي المقرب من المشير عامر . لم يكن يمتلك أي مؤهل ليعتلي منصب وزير الحربية . فلم يخدم بالقوات المسلحة سوي لرتبة ملازم أول فقط ، ثم تحول الي وظيفة مدنية كرئيس لهيئة النقل العام . ثم انتقل للعمل كمدير لمكتب المشير عامر . وتم تعينه كوزير حربية له صلاحيات واسعة متخطياً الكثير ممن هم اقدر واقدم منه ! والاخطر ان هذا الرجل كان سيصبح رئيساً لمصر حتي الآن . نعم حتي الآن فقد اتفق المشير عامر وجمال عبد الناصر علي ضرورة الانسحاب معا من الحياة العامة بعد النكسة . علي ان تدار البلاد من وراء ستار لفترة . ورشح المشير رجل يثق به هو شمس بدران . وأبلغ المشير شمس عن اتفاقه مع عبد الناصر .فبدأ شمس في تكوين الوزارات والتصرف كرئيس الجمهورية بعد عبد الناصر .ولكن القدر انقذ مصر من هذا المصير .فقد استشار عبد الناصر هيكل الذي رشح له زكريا محي الدين . وهنا فوجئ شمس بدران اثناء القاء عبد الناصر بيانه للتنحي بترشيحه لزكريا محي الدين . فطلب من وزارة الاعلام قطع الارسال عن عبد الناصر باعتباره رجل منتهي الصلاحية . لكن لم يستجيب له احد . تري من هو شمس بدران بطل نكسة يونية الذي كان سيظل رئيساً لمصر حتي الآن ؟
في 19 أبريل نيسان عام 1929 خرج شمس الدين بدران إلى الوجود طفلاً لايعرف انه كان علي موعد مع احداث مثيرة عنيفة في الحياة.. فقد شارك في حرب فلسطين، وحوصر في الفالوجا مع زميله جمال عبد الناصر الذى أصبح فيما بعد رئيساً لمصر بعد أن شارك مع رفاقه الضباط الأحرار ومن بينهم شمس بدران في ثورة 23يوليو 1952.بعدها لعب شمس بدران دوراً مهماً في معركة 1956 قبل أن يصبح رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة النقل العام لمدينة القاهرة، فمديراً لمكتب المشير عبد الحكيم عامر وهو في السابعة والثلاثين ثم وزيراً للحربية .
بجملةٍ شهيرة نقلها د. ثروت عكاشة وزير الثقافة سابقاً عن شمس بدران مساء الخميس 8 يونيو عام 1967عندما قال وزير الحربية: "أما اتخمينا حتة خمة".لم يجد أحدٌ من الموجودين طبعاً ما يعلق به..لكن بالقطع فإن أغلبهم تذكروا جلسة مجلس الوزراء يوم 31 مايو عام 1967عندما وصل شمس بدران بصحبة ضابطين كل منهما يحمل خرائط، ثم بدأ يشرح لأعضاء المجلس خطته للقضاء على إسرائيل وهو يبتسم ابتسامةً لا تتفق مع خطورة الأوضاع.
وكان بيانه يؤكد الثقة المتزايدة في قدراتنا العالية واستعداداتنا الكاملة حتى أن أمين هويدي وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء كما أورد في كتابه "الفرص الضائعة" أبدى قلقه من الأوضاع المحلية والعربية ومن احتمال تدخل الولايات المتحدة بأساطيلها على الأقل. وعندما سأل أنور سلامة وزير العمل آنذاك عن استعدادات مصر لمواجهة الأسطول الأميركي السادس، كان رد شمس بدران بالحرف الواحد" عندنا اللي يبططه "!!
وقبل حرب يونيو سافر شمس بدران الي الاتحاد السوفيتي ليطلب دعمه عند اشتعال الحرب .وفي شهادته على تلك الزيارة يقول د. مراد غالب سفير مصر آنذاك بالاتحاد السوفيتي إنه عندما اجتمع شمس بدران مع وزير الدفاع السوفييتي أندريه جريتشكو دار الحوار بينهما على النحو التالي:"جريتشكو: نحن نرى أن الأوضاع خطيرة جداً وأنك ستقابل كوسيجين رئيس الوزراء، فما هو فحوى الرسالة؟
فرد بدران بأسلوبٍ متعال: وإذا ما قلت لك الرسالة فماذا سأقول لكوسيجين؟!، فتململ جريتشكو وسأله: هل أغلقتم مضيق ثيران؟ فرد بدران قائلا: آه، فسأله جريتشكو: وإذا أرادت سفينةٌ إسرائيلية عبور المضيق ماذا ستفعلون؟ رد بدران: سنمنعها.. فسأله غريتشكو، وإذا ما جاءت سفينة أخرى من أى بلد في العالم ماذا ستفعلون؟ فرد بدران: سنمنعها..فسأله غريتشكو: وإذا ما جاءت مجموعة أساطيل تحت قيادة الأسطول الأميركي وأرادت دخول المضيق ماذا ستفعلون؟ فرد بدران: إذاً العالم كله يشهد أن أميركا دخلت الحرب ضد دولة صغيرة من العالم الثالث. فتململ جريتشكو بشدة لهذه الإجابات غير المسؤولة وغير المقبولة.
"وانتهت المقابلة التي أظهرت أن وزير دفاعنا بهذا الحجم من المعرفة العسكرية البسيطة.

"ثم قابل رئيس الوزراء السوفييتي أليكس كوسيجين وزير الحربية شمس بدران الذي قال له إنه يحمل رسالة من القيادة المصرية ويريد أن يعرف رأي الاتحاد السوفييتي. وأكد له أن الحشود المصرية لها ثلاثة أهداف وهي وصول جزء من القوات المصرية إلى إيلات جنوباً والجزء الثاني إلى وسط إسرائيل، أما الثالث فسيصل إلى تل أبيب والقدس.
كان بدران يقول هذا الكلام بينما طليعة القوات المسلحة المصرية وأكثرها تدريباً وتسليحاً موجودة في اليمن والقوات التي حشدوها كانت قوات احتياطي وكان الجنود يركبون الدبابات بالجلاليب وساروا أمام السفارة الأميركية بالقاهرة لاستعراض قوتهم الجبارة وقاموا بتعيين الفريق عبدالمحسن مرتجى قائداً للجبهة ومحمد فوزي رئيساً للأركان وكان سليمان عزت رئيسا للقوات البحرية وصدقي محمود قائداً لسلاح الطيران.

وبعد أن كشفت المحادثات عن موقف موسكو الواضح الذي يتحفظ على دعم القاهرة عسكرياً إن هي بدأت بالحرب، ودعوة مصر إلى عدم توتر الموقف على الحدود مع إسرائيل..انتهت زيارة شمس بدران للاتحاد السوفييتي. وعلى سلم الطائرة سلم جريتشكو على شمس بدران وقال له: "لا تنزعجوا نحن معكم"، وهي مجرد كلمة مجاملة لا أكثر ولا أقل..لكن بدران نحى كل الأسئلة والمناقشات التي دارت معه حول قدرة الجيش المصري واحتمالات الحرب ودخول الولايات المتحدة طرفاً فيها.. إلخ وتمسك بهذه الكلمة فقط. وهذا ماوصل للرئيس عبد الناصر حينئذ ان الاتحاد السوفيتي سيكون معنا . ومع الاسف لم يقرأ عبد الناصر باقي تفاصيل اللقاء الذي سجله سفير مصر حينئذ مراد غالب الا بعد النكسة .
هذا هو الرجل الذي كان سيتولي رئاسة مصر ولايزال يعتقد ان حظه في الرئاسة ضاع بسبب مؤامرة بين عبد الناصر و هيكل اثناء كتابة بيان التنحي ، بعد ان كان اتفاق اقتسام السلطة بين ناصر و عامر وصل الي اختيار شمس رئيسا حتي لا تشتعل في مصر حرب اهلية. ولكن حظ مصر الا تظهر صحف هذة الايام لتعلن ان "بدران يناشد الفدائيين" نفق شبرا خط احمر لايمكن للقوات الاسرائيلية ان تتعداه . وبالطبع منطقة وسط القاهرة كانت ستكون محتلة في حرب الست ثوان . ومن قبلها كانت عاصمة مصر ستنقل الي محافظة لأخري متقهقرة للخلف حتي تصل الي اسوان . وكان شعب مصر سيكون لاجئاً يعيش في مخيمات بالربع الخالي في الجزيرة العربية .