الأحد، 16 يناير 2011

صفحات من مذكرات زوجة عبدالناصر

صفحات من شهادةعلي الهزيمة وليلة التنحي وانتحار عبدالحكيم عامر


تحية تحكي



لا تتوقع الحصول علي معلومات لها قيمة عندما تقرأ مذكرات تحية عبدالناصر ، المرأة التي عاشت إلي جوار زوجها الرئيس كزوجة وأم لأولاده، لم تكن تسأله عن شئ، ولم يكن هو يقول لها أي شئ اللهم إلا ما يستوجبه الحال.

لكنك ستجد فيضا من البراءة والعذوبة والطيبة في وجه امرأة عرفت قدر زوجها فظلت إلي جواره ...لا تقلقه بشئ ولا تطالبه بشئ....ما يريد أن يخبرها به تسمعه ...وعندما يصمت تحترم صمته.

لن تجد في مذكرات تحية عبدالناصر "ذكريات معه" التي ستصدر قريبا عن دار الشروق حديثا مطولا عن الحب أو الغرام الذي يكون بين رجل وزوجته، قبل الزواج أو بعده، لكنك ستشعر مع كل سطر تكتبه أنك أمام امرأة عاشقة بل متيمة بزوجها.

لم تكن تخفض عينيها من عليه .. وهو معها أو وهو غائب عنها ...ولذلك ستفاجأ بأنها لا تحكي شيئا مما مر به زوجها وما مرت به معه من أحداث سياسية إلا وظلال العائلة والبيت موجود ومؤثر...فقد وهبت حياتها للرجل الذي وهب حياته راضيا مرضيا لمصر.

هنا تحية عبدالناصر تتحدث ...تحكي ...لا يوجد بينكم وبينها أي فواصل علي الإطلاق ...المرأة العظيمة حكت ..وليس عليكم إلا أن تقرأوا.



1

قنابل ولعب أطفال وكتب ممنوعة في بيت عبدالناصر

كان جمال يذهب للسويس وبورسعيد أثناء شغله لتعليم وتدريب الضباط الذين عندهم فرقة، ويغيب يومين أو ثلاثة، وأحيانا مرة في الشهر أو أقل أو أكثر، وأحيانا كان يغيب يوما واحدا، وفي هذه الفترة لم ينقطع وجود الأسلحة في البيت، ومنها الحجم الكبير، أي المدافع التي لا يمكن وضعها في دولاب، فكنت أضعها في ركن في حجرة السفرة ولا تبقي طويلا، يوما أو يومين وتختفي وأستريح ثم يصلنا غيرها.. كانت هذه الأسلحة بالنسبة لهدي ومني شيئا مألوفا، وعندما يشاهدان المدافع يقولان: عندنا مدفع كبير يا ماما، ويجريان ويلعبان فرحين، فكنت أقفل باب الحجرة فينشغلتا باللعب في الصالة والفراندة.. كان جمال يحرص علي شراء لعب لأطفاله، وعند احضاره لعبة اللعبة يعلمهم كيفية استعمالها، وعند حضوره البيت يقبل أطفاله ويتكلم معهم ويلاطفهم، ويداعب البيبي - تقصد خالد - ويقبله، وعندما يكبر ويمكنه الجلوس معنا في السفرة كان يجلسه بجانبه ويلاطفه ويقدم له الطعام، ويسعده جلوسه بجانبه، ويتعود الطفل علي النظام في الأكل.

وكان في حجرة السفرة دولابان كبيران علي جانبي الحجرة، وفي الوسط دولاب آخر أصغر وأعلي كما كان الطراز في ذلك الوقت، دخل جمال وكنت جالسة في حجرة النوم، وأعطاني مفتاح دولاب منهم وقال:الدولاب الذي علي اليمين به قنابل وقد قفلته حتي لا يفتحه الأولاد، فليبقي معك المفتاح حتي أطلبه، خبأت المفتاح، وأنا أيضا أصبحت لا أقترب من الدولاب وخفت منه، فكان يطلب المفتاح ثم يعطيه لي فأخبئه.

قال لي جمال:الأسلحة التي أراها في البيت تنقل للسويس، والأماكن التي فيها انجليز، حتي يشعروا بالقلق، وبأنهم في بلدنا غير آمنين علي حياتهم، وأضاف:الخطط توضع هنا في البيت، وكل واحد رايح السويس يمر علي قبل ذهابه، فسألته إذا كان هو يذهب هناك، فقال لي:نعم إني ذاهب وطبعا رجوته ألا يذهب.. مرة أخري حضر أحد الضباط، وكان الوقت بعد الغروب وأعطي عسكري المراسلة كيسا كبيرا، وقال له:إن به عدد 2 سرير سفري، وعندما يحضر البكباشي جمال سيختار منهما واحدا والثاني سيرجع للمحل، وهما ملفوفان بالورق فلا تفتح الكيس، وأوصاه بوضعهما في مكان بعيد عن الأولاد ليظل الورق عليهما، نظرت للكيس وفهمت أنهما مدفعان كبيران، وعندما رجع جمال حدثه المراسلة عن الكيس، وعما قاله الضابط، وبعد أن دخل جمال الحجرة دخلت وراءه مسرعة، وقلت له بصوت واطي وأنا أضحك من المراسلة:إنهما مدفعان كبيران وليس سريران، فقال لي:أنا عارف أنهما مدفعان، وأنا الذي أرسلتهما مع الضابط، هذا كان يحصل في بيتنا وكنت دائما مرحة سعيدة أضحك كثيرا.

كل شئ في البيت كان محظورا ولا يبعث علي الاطمئنان، وكنت أعرف ذلك لكن لم أكن أفهم ما هي الغاية، ولم أجد إلا الحرص علي الكتمان، وفي يوم رأيت في الحجرة كتابا عن أحد المقربين من الرسول صلي الله عليه وسلم - الصحابي أبو ذر الغفاري - أول اشتراكي في الإسلام، حضر جمال ووجدني اقرأ في فيه، فقال لي:هذا الكتاب ممنوع في مصر وسآخذه بعد يومين، فزادت رغبتي في قراءته، وقرأته، وقلت في نفسي:كل شئ أراه في البيت ممنوعا حتي الكتب.



2

السادات أسمر شديد

السمرة وزوجته بيضاء جدا

في بداية صيف 1952 علي ما أذكر ، حضر زائر وكان بعد خروج جمال في المساء قبل المغرب، وكان عسكري المراسلة غير موجود، ففتحت له الباب وسأل عن البكباشي جمال عبدالناصر، فقلت له إنه خرج، فكتب ورقة وانتظرته حتي أعطاها لي، وضعتها فوق البيانو كعادتي، وبعد رجوع جمال أخبرته بحضور الضيف وأنه أعطاني الورقة بعد أن كتبها، وقلت إنه أسمر شديد السمرة، فقال إنه متزوج حديثا وزوجته بيضاء جدا، وكان هذا الضيف أنور السادات.



3

قالت له أخي كان قلقا عليك .. فقال لها: ماذا سيفعل غدا عندما يري صورتي في الصحف؟

في الساعة العاشرة مساء يوم الثورة حضر جمال، وبعد أن هنأته من كل قلبي قال:سأبقي ساعتين فقط وأرجع إلي القيادة، وحلق ذقنه وأخذ حماما واستبدل ملابسه وجلس معنا في حجرة المكتب، أخبرته عن أخي وحضوره في الصباح وسؤاله عنه وقلقه عليه.. فقال لي:إنه سيدهش غدا عندما يراني في الجرائد ويري صورا لي في عربة جيب، وقال إنه لف الشوارع الرئيسية في البلد مع اللواء محمد نجيب، وكانت أول مرة أسمع اسمه، وإن البلد كلها خرجت لتحيتهم وكلها حماس، قلت له:إني طول النهار أسمع الطائرات تمر من فوق البيت، وحكيت له عن سهري طول الليل حتي الصباح، وقلقي عند سماعي طلقات الرصاص.. قال جمال: لقد اقتحمنا القيادة العامة بفرقة من الجيش ومعي عبدالحكيم عامر، ولم يصب إلا اثنين من الجنود، وأحد حرس القيادة وواحد من الفرقة التي معنا، واستسلم كل الموجودين في القيادة وكانوا مجتمعين، وأخذتهم واحدا واحدا وأدخلتهم في مبني المدرسة الثانوية العسكرية، وثم قال:وسلمتهم للسجان حمدي عاشور وضحك، وبعد أن تم كل شئ خرجت لأقفل الشارع وأرجع العربيات قبل مرور الجيش وكنت واقفا علي ناصية الشارع وركنت العربية الأوستن بالقرب مني.

وأضاف وهو يضحك:لماذا تقلقين وأنا قريب منك علي ناصية الشارع، والعربية الأوستن بالقرب مني في ميدان المستشفي العسكري، فقلت:إنك كنت قريبا ولكن بعيدا جدا ...وكان يضحك.

وتحدث عن الملك وقال:لقد أرسل الملك مبعوثا من قبله وأملينا عليه تغييرات وشروطاً وكل ما طلبناه منه وافق عليه فورا، وحدثته عن حضور ثروت عكاشة في الصباح وتهنئته لي وقوله :اسمعي البيان في الساعة السابعة، وسمعته، فقال جمال:إنه أنور السادات، وقال:لقد كان هو وزوجته في السينما، وعندما رجع لبيته وقرأ الورقة المكتوب فيها يحضر ارتدي ملابسه العسكرية وخرج مسرعا، وفي طريقه للقيادة عند مدخل مصر الجديدة منعه الضابط المكلف بالوقوف هناك لعدم معرفته كلمة السر ، وبعد إلحاح سمح له الضابط بالمرور، وعند مدخل القيادة منع أيضا من الدخول، فلف ودار حول القيادة بدون جدوي، وأخيرا نادي وصاح فسمعه عبدالحكيم وعلمت بحضوره ودخل القيادة عند الفجر.



4

التليفون دخل بيتنا بعد أسبوع من الثورة

بعد أسبوع من قيام الثورة أدخل التليفون في بيتنا فلم أهتم به، أو أشعر أن شيئا كان ناقصا، فقط وجدته في البيت، وأول مكالمة تلقيتها كانت لإحدي قريبات الدكتور الذي أضع في مستشفاه تريد طلبا، ولا أدري كيف تذكرت اسمي؟، وتذكرت أني كنت كلما ذهبت إليه أثناء مباشرته لي وقت الحمل كان يسألني عن اسمي، وكلمتني السيدة عن طلبها، وقالت:لقد قال الدكتور إنك وضعت في مستشفاه ولدين.

كانت تحضر سيدات من زوجات الضباط الكبار منهم اللواءات ويطلبن مقابلتي لتوصيتي بإخبار البكباشي جمال عبدالناصر عن حالة الأزواج الذين طلعوا في التطهير، وأيضا زوجات لغير الضباط، وتحضر سيدات لإعطائي شكاوي وتوصيات وتظلمات من أحوال في عهد الملك كان أزواجهن مظلومين فيها وطلبات بتحسين وتغيير في وضعهم، ومنهن سيدات يتظلمن من نظام الوقف لأنه لا يعطي المرأة نصيبا من تركة الرجل.

وبعضهن يقلن إنهن فقراء وأخواتهن الذكور في غاية الثراء ويسكنون القصور، وعند حضور جمال كل الجوابات والأوراق والشكاوي أعطيها له، فكنت أري وأقابل هذه المرحلة بشئ من الاهتمام.

ثم وضع تليفون في حجرة المكتب وتليفونين في حجرة النوم علي جانبي السرير فوق الكومودينو، وقبل حضور جمال في المساء كان السؤال عنه يكثر بالتليفون، وعن الوقت الذي سيحضر فيه أو يكون موجودا في البيت، وكان هذا السؤال بالنسبة لطالبي مكالمته عادي لكنه بالنسبة لي غير عادي.

كنت أنام وأصحو علي جرس التليفون وأرد علي المتحدث وكنت أسمع كلمة وزير ولم أعتد سماعها إذ كيف يتحدث وزير ويطلب بيتنا في التليفون؟وكنت أسمع وزيرا من قبل يعني صاحب المعالي والآن أصبح شيئا عاديا في بيتنا كلمة وزير، وأيضا تطلبني سيدات من زوجات الباشوات سابقا طبعا، حتي ناريمان الملكة السابقة طلبت تكلم جمال عبدالناصر وكان الوقت صباحا.

وأذكر مرة طلبه وزير الأوقاف وكان ينطقها باللغة العربية، وعند حضور جمال وكنت نائمة وصحوت فقلت: وزير القوقاف - بدل وزير الأوآف كما ننطقها - سأل عنك، فضحك وطبعا صححت نطقها وضحكنا.



5

عملية جراحية دون علم الزوجة

الوقت سنة 1953 شهر مايو، كان جمال يشعر بألم في بطنه لم أعلم به إلا بعد مدة، لعدم وجوده في البيت أغلب الوقت، في يوم قبل خروجه في الصباح قال لي :سأحضر علي الغداء وأريد أكل خفيف من الخضار المسلوق لأني أشعر بألم في بطني بسيط، جهزت الأكل كطلبه وحان وقت الغداء ولم يحضر، وبعد أن انتظرته تناولت الغداء وقلت إنه مشغول ولم يجد وقتا للحضور.. حضر عبدالحكيم عامر وطلب مقابلتي، وقال لي :جمال الحمد لله بخير وفاق من البنج بعد إجراء عملية المصران الأعور له، ويسأل عنك ويريدك أن تذهبي له في المستشفي الآن، فاندهشت وقلت:كيف أجريت له عملية ولم يقل لي وطلب مني إعداد غداء خفيف؟قال عبدالحكيم:لقد كنت معه أثناء إجراء العملية والحمد لله.



6

يوم العدوان الثلاثي قال لي:أنا ورايا البلد وأولادنا وأنت معاك أولادك

في يوم 31 أكتوبر سنة 1956 حصل الاعتداء الإنجليزي الفرنساوي وكان الرئيس في البيت، طلب مني أن أنزل إلي الدور الأول مع الأولاد وصعد هو إلي سطح البيت ليري الطائرات، ثم دخل مكتبه وظل فيه، بقيت يومين في الدور الأول وهو يخرج ويرجع في ساعة متأخرة من الليل، ويصعد لحجرة النوم في الدور الثاني ويطلب مني أن أبقي والأولاد في الدور الأول، وجهز ترتيبا لنومنا والغارات مستمرة، حتي سقطت قنبلة قريبة من بيتنا وتناثرت شظاياها في الحديقة، وكان اليوم الثالث للاعتداء وكل الساكنين في المنطقة غادروها.

قبل خروج الرئيس في الصباح وكنت واقفة معه في الحجرة، قال لي بالحرف:أنا ورايا البلد وأولادنا وأنت معاك أولادك، وسيحضر صلاح الشاهد ويوصلكم لبيت في مكان بعيد عن الضرب وقت الضهر، وكان لا يعرف المكان الذي سنذهب إليه في أي جهة أو شارع وحياني وخرج.

ذهبنا لبيت في الزمالك صغير مكون من دور وبدروم وفي شارع ضيق، وكنت لم أر بيتا في حي الزمالك بهذا المنظر، فهو قديم والفرش قديم وغريب، وله حديقة صغيرة جرداء ليس بها زرع، سألت صلاح الشاهد لمن كان هذا البيت؟قال إن صاحبته أميرة ولم تسكن فيه إذ هي تعيش في الخارج.

طلبت أكلم الرئيس في التليفون وكلمني وسألني عن الأولاد، وفي اليوم التالي طلبته أيضا في التليفون وتحدثت معه، وبعد ذلك طلبت أكلمه فرد علي زكريا محيي الدين، وقال إن الرئيس غير موجود في مجلس الثورة، وذهب في مهمة وسيكلمك عندما يرجع إن شاء الله.

وطبعا انشغلت جدا حتي طلبته ورد علي بنفسه، وعلمت بعد ذلك أنه كان في طريقه لبورسعيد، طلب الرئيس مكالمتي بالتليفون وكان الوقت الساعة الثامنة صباحا والقتال أوقف قبلها بساعات، وقال يمكنك الآن أن ترجعي منشية البكري بعد أن مكثت خمسة أيام في منزل الزمالك.

وجدت حي منشية البكري فاضي ولم يرجع أحد لمسكنه، والرئيس ظل في مجلس الثورة، وكنت أكلمه بالتليفون كل يوم، وعند انتهاء المكالمة كما هي عادته يقول لي:عاوزه حاجة؟فأشكره وبعد أكثر من أسبوع سألته:متي ستحضر إلي البيت؟فقال بعد خروج الإنجليز، وفي مرة كنت أتحدث معه بالتليفون وكعادته قال:عاوزه حاجة؟ فقلت:عاوزه الإنجليز يخرجوا وضحكنا.



7

موت عامر ... وليلة التنحي... وهزيمة يونيه... وأشياء أخري

لوقت أول يونيه 1967، كان الاعتداء الإسرائيلي علي سوريا، وكان الرئيس يجلس معنا في الصباح، قال إن اليهود سيعتدون علي مصر، وحدد بالضبط يوم الاثنين المقبل، وحصل الاعتداء الإسرائيلي في نفس اليوم الذي حدده الرئيس، 5 يونيه 1967 في الصباح.

في يوم 9 يونيه ألقي الرئيس خطابا، وكنت جالسة في الصالة كعادتي وقت إلقائه خطاباته أمام التليفزيون ومعي أولادنا، وسمعته وهو يعلن تنحيه عن الحكم، ورأيت الحزن علي وجهه وهو يتكلم، ولم أكن أعرف أو عندي فكرة أبدا عن التنحي، وكان يجلس معي عبد الحميد وعبدالحكيم أصغر أبنائي - وكان في الثانية عشرة - فرأيت علي وجهيهما الحزن، ودخل ابني خالد الصالة أيضا.

قلت لهم :إن بابا عظيم وهو الآن أعظم فلا تزعلوا. رد عبدالحميد وقال بالحرف:أحسن يا ماما علشان بابا يستريح، وقاموا يمشونا في البيت كالعادة.

لم تمض دقائق حتي علا صوت الجماهير حول البيت، وحضر الرئيس وصعد للدور الثاني ودخل حجرته وخلع بدلته ولبس البيجاما ورقد علي السرير.

انسد الشارع وتعذر الدخول للبيت، ومنهم من لم يستطع الوصول للشارع الذي فيه بيتنا، حضر معظم المسئولين، ونواب الرئيس ووزراء وضباط وامتلأ الدور الأول، ومنهم من كان يبكي بصوت عال ويصعد السلالم ويطلب الدخول للرئيس في حجرته، ورأيت بعضهم جلس علي السلالم ينتحب، وكنت أسمع صوت بكائهم، فكنت أدخل لجمال في الحجرة وأخبره عمن يطلب مقابلته.

سمح لعدد قليل بالدخول إلي حجرته، ثلاثة أو أربعة وأراهم يخرجون من عنده وهم ينتحبون، ثم قام وارتدي البدلة ونزل للدور الأول ومكث معهم وقتا قصيرا، وصعد إلي حجرته مرة أخري وخلع البدلة وارتدي البيجاما ورقد في السرير وأخذ مهدئا، وقال:سأنام، وكان محمد علوبة الخاص بخدمته قد صعد وخبط علي الباب معه مذكرة وأوراق، فقال لي الرئيس:قولي له لا يحضر أي أوراق وينصرف، وبقيت بجانبه وأصوات الجماهير تزداد حول البيت.. نمت حتي الصباح وقمت كالعادة، وأصوات الجماهير والهتافات لم تنقطع وتعلو بشكل لا أقدر أن أصفه، وخرجت من الحجرة وظل هو راقدا علي السرير، وكنت عندما أخرج من الحجرة في الصباح، أخرج بهدوء ولا أدخلها حتي أسمع الجرس ليدخل الخاص بخدمته، وبعد وقت أدخل له ونتبادل تحية الصباح، ثم أتركه ويكون قد بدأ في القراءة والاتصالات حتي يطلب الإفطار ويطلبني لأجلس معه.

لم أدخل الحجرة في هذا الصباح إذ كان يدخل له زوار فرادي يمكثون وقتا قصيرا ويخرجون، وهو في حجرته لم يغادرها، وقت الظهر وجدت الحديقة من الخلف يرص فيها كراسي صفوفا، ووجدت الإذاعة والتليفزيون تجهز في الحديقة، ورأيت مذيعا من الإذاعة وفريقا من الأخبار في التليفزيون، ونظمت الكراسي ووضعت منضدة أمام الصفوف، سألت:ماهذا ؟فقيل لي إن مجلس الأمة سيجتمع هنا.

كان ترتيب الكراسي والصفوف بشكل أدهشني وكأنها صالة مجلس الأمة في الهواء الطلق، فقلت في نفسي:لقد رأيت كثيرا من المواقف والمفاجآت الغريبة في حياتي، وها هي تختتم بمجلس الأمة في البيت.تركت الفراندة وكنت أعد أكلا خاصا للرئيس فذهبت لإكماله، فدخلت ابنتي مني وقالت:يا ماما أنور السادات - وكان في منصب رئيس مجلس الأمة - يعلن في التليفزيون أن بابا رئيسا للجمهورية، وأنت يا ماما هنا؟

ذهبت للصالة ورأيت أنور السادات وقد قرب من الانتهاء من الحديث فسألت:وماذا عن مجلس الأمة الذي أعد في البيت والحديقة والإذاعة والتليفزيون؟فقالوا لي:إن أعضاء مجلس الأمة لم يمكنهم الحضور لشدة ازدحام الشوارع بالجماهير، وهم مجتمعون الآن في مقر المجلس بعد أن قبل الرئيس العدول عن التنحي، كل هذا والرئيس في حجرته لم يخرج منها...دخلت له في الحجرة ولم أقل شيئا.

في صيف 1967 بقينا في القاهرة حتي شهر أغسطس، فقال لي الرئيس:اذهبي إلي الإسكندرية مع الأولاد، وظل هو في القاهرة، وفي شهر سبتمبر حضر الرئيس للإسكندرية بعد أن أحبط مؤامرة دبر لها المشير عبدالحكيم عامر للرجوع لمنصبه بالقوة، بعد تغيير الرئيس للقيادات في القوات المسلحة.. أمضي جمال أياما قليلة معنا وفوجئ بانتحار المشير، تلقي النبأ بحزن عميق ورجع للقاهرة، ورجعت مع الأولاد في اليوم التالي، وجدت الرئيس حزينا وأشد ما أحزنه أنه عبدالحكيم عامر الصديق، وظل مدة علي وجهه الحزن.

ليست هناك تعليقات: