السبت، 1 أكتوبر 2011

أنيـــس منصـــــور : الديانة اليهودية وراثية وليست كالإسلام والمسيحية ديانة تبشير وتهذيب وإصلاح‮!‬

آعجبني هؤلاء
لأول مرة‮: ‬عبدالناصر التاريخ أكذوبة يصنعها الأقوياء‮.. ‬وأكبر جهاز لتكييف الهوى
م


‮ ‬بقلم‮:‬ أنيـــس منصـــــور

كان ذلك في مطابع‮ »‬أخبار اليوم‮« ‬نزل به الأستاذ محمد حسنين هيكل‮. ‬فكان يناديه باسمه ويستجيب‮. ‬طبيعي‮ ‬فهما صديقان‮. ‬أما‮ ‬هو فرأيته قصيرا نحيفا بملابسه العسكرية‮. ‬وكان يبدي اهتماما بما يري‮. ‬ولكن ليس اهتماما كبيرا‮. ‬إنه فقط سعيد بأنه فاجأ العمال‮. ‬ورأي علي وجوههم الدهشة والاعجاب والفرحة به‮.. ‬وهو لايتكلم،‮ ‬إنه يلوح بيده‮.‬
وينتقل من مكان إلي مكان‮.. ‬وهو لاينطق‮. ‬وإنما يستمع‮. ‬ولكنه لم يترك أثرا‮. ‬هذا الرجل الذي صنع الثورة وطرد الملك وأصبحت مصر جمهورية‮. ‬وأول مصري يحكم مصر‮. ‬لاهو أبيض ولا هو أسمر‮. ‬هو أسمر أصفر‮.. ‬شخص عادي جدا‮. ‬ليست له مزايا مختلفة لا في وجهه ولا في جسمه‮.‬
وسمعت العمال والزملاء يتحدثون عنه‮. ‬يتحدثون عن المفاجأة‮. ‬وأنه إنسان عادي أي متواضع بسيط‮. ‬كان ذلك سنة ‮٢٥٩١. ‬ولم تتضح معالم‮ »‬الثورة‮« ‬أو‮ »‬الانقلاب العسكري‮«. ‬ولم يظهر إلي جواره أحد‮.‬
وكل الناس يعلمون انه هو الذي كان وراء الثورة‮. ‬أو هو الثورة وبقية زملائه عاديون‮. ‬وإن كانوا يحاولون إثبات وجودهم بالقوة‮.. ‬بالكلام أو بالافعال‮. ‬لكن لا أحد منهم فعل شيئا‮. ‬وعبدالناصر هو الذي فكر ودبر‮.‬
ولم يخطر ببال أحد ذلك‮  ‬الوقت انه هو الثائر وأنه هو الزعيم‮.‬
وربما كان نصيبه من الدعاية أقل من زملائه الذين ملأوا الدنيا كلاما‮.‬
ورعبا أحيانا‮. ‬فجمال سالم عنيف في أقواله وأفعاله‮. ‬وإنه إذا صار شيئا بعد ذلك فسوف يكون شديدا‮. ‬وأخوه صلاح سالم ايضا‮. ‬الباقون ليس لهم وضوح‮. ‬أنور السادات هو السياسي الوحيد فيهم‮. ‬تآمر وألقي القبض عليه ودخل السجن وأفلت من حبل المشنقة‮. ‬وهو المعروف قبل الثورة‮. ‬وهو حريص علي ألا يظهر في الصحف‮.. ‬وأن يكون بعيدا تاركا الساحة للزملاء الآخرين‮.‬
وفيما بعد عرفناهم جميعا‮. ‬وكان السادات أكثرهم حذرا‮. ‬وأكثرهم حكمة أيضا‮..‬
كان عبدالناصر قد أمم الصحافة كلها ملك الدولة واشتدت الرقابة وصارت خانقة‮. ‬إرهاب حقيقي‮. ‬فأنت خائف إذا كتبت‮. ‬خائف إذا لم تكتب‮. ‬خائف من الرقابة عليك‮. ‬أنت وزوجتك وأولادك‮. ‬فالخوف عام يصيب الجميع‮. ‬حتي الذين لا أهمية لهم خائفون‮.‬
وطلب عبدالناصر ان يلتقي رؤساء تحرير الصحف في ذلك الوقت من سنة ‮١٦٩١ ‬كنت رئيس تحرير مجلة‮ »‬الجيل‮« ‬وكانت المجلة قد مشت في الخط‮. ‬وتغيرت ملامح المجلة،‮ ‬فلا فتيات جميلات وإنما عاملات بأشكالهن التي ليست فيها أناقة ولا جمال صارت المجلة كئيبة‮. ‬الخوف هو السبب‮.. ‬ثم إننا لا نعرف ماذا نقول وماذا لانقول‮. ‬فنحن في خوف من الرقيب الذي هو موظف صغير عنده تعليمات‮.. ‬الخوف من أن يحذف ويشطب وعلينا ان نطيع وإلا تعطلت المجلات والصحف عن الصدور‮.‬
وذهبنا للقاء عبدالناصر مثل تلامذة ساقطين في لقاء وزير التربية والتعليم‮. ‬وكل واحد يتذكر أخطاءه أو الاخطاء التي حسبوها عليه‮.‬
لابد أن يكون لهذا اللقاء المهم سبب وجيه من التكدير والعقاب‮.‬
وقبل أن نجلس قابلني الاستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير‮ »‬آخر ساعة‮« ‬وقال‮: ‬يجوز الرئيس عبدالناصر يسألك عن تحضير الأرواح الذي نشرته في مصر‮. ‬لاترد‮. ‬تسكت‮.‬
وجلست وراء الأستاذ فكري أباظة وتواريت حتي لايراني عبدالناصر وقد تغيرت ملامحه تماما،‮ ‬يبدو أطول،‮ ‬أكثر امتلاء‮.. ‬وأري عينيه تبرقان في حدة‮. ‬أو هكذا رأيناه وجلسنا في خوف رهيب أو في صمت ورهبة‮. ‬ولم نعرف ماذا عساه أن يقول وقال‮: ‬وتناول بالنقد مجلة‮ »‬روزاليوسف‮« ‬والكاريكاتير وقال‮: ‬إحنا ما عندناش في مصر عشاق في الدواليب أو تحت السرير‮. ‬مفيش في مصر حاجات من دي‮.‬
ووقف مصطفي أمين يرجو الرئيس ان يكون اسم‮ »‬الأخبار‮« ‬هو‮ »‬أخبار اليوم‮« ‬لأن عبدالناصر طوال الوقت يتكلم عن صحيفة‮ »‬الأخبار‮« ‬فخشي مصطفي أمين أن يكون هذا اسمها‮. ‬وإنما أراد ان يكون اسمها‮ »‬أخبار اليوم‮« .. ‬وانتهي الاجتماع‮.‬
وقعت مذبحة في التليفزيون المصري فقد مسحوا كل هذه التسجيلات لكي يسجلوا عليها خطب الزعيم الخالد عبدالناصر‮.‬
مسحوا شريط طه حسين والحكيم وعزيز باشا أباظة وحسين فوزي‮..‬
وشريط طه حسين قد عثرت عليه عند صديقي في السعودية وقدمته هدية للتلفزيون المصري‮.. ‬وبقية التسجيلات ذهبت إلي حيث لاعودة‮.‬
أما التسجيل الذي حزنت علي ضياعه فهو مع المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي‮ .. ‬وكانت أول مرة يري الناس مؤرخهم العظيم الوديع‮. ‬وكان ذلك قبل وفاته بأيام‮. ‬ولم أكن أعرف أن هذا الرجل بهذا الجمال واللطف والرقة والأدب‮. ‬فقد كان نموذجا عاليا للشفافية النفسية‮. ‬وكان مؤرخا علي خلق‮. ‬وقد سألته‮: ‬كيف تزوجت يا أستاذ؟
فقال‮: ‬إنه زواج تقليدي‮..‬
وسألته‮: ‬وهل رأيت زوجتك قبل أن تخطبها؟
فانزعج وقال‮: ‬لا لا‮: ‬كيف آراها قبل الزواج؟ إنني علمت أنها ابنة فلان ومن عائلة فلان‮. ‬وأنا أعرف فلانا هذا فهو رجل علي خلق‮.. ‬وأعرف سمعة هذه العائلة ويكفيني هذا‮..‬
فقالت‮: ‬وكيف أحببتها؟
فقال‮: ‬الحب يجيء عادة بعد الزواج‮.‬
وعرفت كيف يكتب الرجل التاريخ‮.. ‬انه ينطلق من التفسير الأخلاقي للتاريخ‮.‬
سألته‮: ‬وما رأيك في طه حسين؟
قال‮: ‬وهل يكون لي رأي؟ إنه رجل عظيم‮.‬
‮< ‬وما رأيك في العقاد‮.‬
‮< ‬وهذا عظيم آخر‮.. ‬وهذه نماذج فريدة في التاريخ قل أن يجود الزمان بمثلها‮.. ‬وكذلك أمير الشعراء شوقي‮.. ‬سعيد لأنني أعيش في عصر هؤلاء العباقرة‮..‬
ونحن سعداء ان نعيش في زمانك يا أستاذ وسوف يسعد الناس عندما يرونك لأول مرة‮..‬
ولآخر مرة أيضا‮.‬
بعد ان سمعنا ورأينا العجب عن ثورة يوليو العظيمة أصبح عندنا شئ واحد مؤكد‮: ‬إن قيام الثورة له ألف أب،‮ ‬أما استمرار الثورة وسلبياتها فطفل يتيم لقيط لا أحد يعرف له أبا ولا أما،‮ ‬وإنما وجدوه أمام باب التاريخ الحديث‮. ‬ومن المؤكد أن الثورة أخرجت ملكا واحدا،‮ ‬وولدت عشرين،‮ ‬ورأينا أحد الضباط الأحرار يدافع عن معتقلات عبدالناصر ويلعن معتقلات السادات،‮ ‬ويري انه طبيعي ان يحمي عبدالناصر ثورته بإيداع الناس السجون،‮ ‬و الحقيقة ان المعتقلين أيام عبدالناصر عندما خرجوا من السجن هان‮  ‬عذابهم إذ يكفيهم ان تمتلئ عيونهم وآذانهم بالقوات الروسية في مصر وعندما خرجوا من سجون السادات وجدوا البلاد قد تطهرت من الجيش الروسي‮.‬
ورأينا وسمعنا من يقول‮: ‬إن الثورة قائمة حتي يوم القيامة،‮ ‬ومن يقول انها بدأت وانتهت بعبدالناصر،‮ ‬وإنها مثل الديانة اليهودية وراثية وليست كالإسلام والمسيحية ديانة تبشير وتهذيب وإصلاح‮!‬
والثورة كالنار كما يقول الشاعر القديم‮: ‬تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله،‮ ‬فأكلت الثورة بنيها،‮ ‬وأكلها بنوها أيضا لأنهم يأكلون النار،‮ ‬ورأينا وسمعنا من يقدس الرئيس عبدالناصر،‮ ‬وهم جميعا يسيئون لرجل بسيط قام بحركة وصارت الحركة بركة،‮ ‬وصارت البركة انقلابا،‮ ‬وأخيرا ثورة،‮ ‬وعبدالناصر هو الذي قال انه وزملاءه كانوا مثل ست شخصيات تبحث عن مؤلف ثم وجدوا المؤلف الذي يقول انه علام الغيوب ومفرج الكروب،‮ ‬ولا أحد سواه‮.‬
وهناك مثل واحد علي كل فلسفات الثوار‮: ‬ماذا فعلوا بمحمد نجيب ـ أول رئيس حذفوا اسمه من الكتب المدرسية وهو حي ونحن أيضا،‮ ‬وعذبه عبدالناصر وأذله وأهانه في أسرته وفي نفسه‮.‬
آخر كلام‮: ‬التاريخ أكذوبة يصنعها الاقوياء ويصدقها الضعفاء‮.. ‬أو بعبارة أخري‮: ‬التاريخ هو أكبر جهاز لتكييف الهوي‮!‬

ليست هناك تعليقات: